في نهاية سبتمبر، عرضت «نتفليكس» وثائقي «مستر مكمان» من ست حلقات، في الوقت الذي يواجه فيه صانع الترفيه الأشهر في التاريخ ربما فينس مكمان رئيس مجموعة «دبليو دبليو إي» تهماً عديدة تتعلق بالتشرح والاستغلال الجنسي وقضايا أخرى بدأت في المس من جديد بسمعة شركته وطريقة إدارته، تلك التهم الجديدة\القديمة، التي دفعت «ماكمن» للاستقالة بعدما كان يظن أنه لن يهزم أبداً، ليست سوى غيض من فيض، في الوثائقي الذي عرضته نتفليكس وعملت عليه منذ عام 2021 قبل أن تبرز التهم الموجهة من جديد لماكمن، كما يؤكد صانعو العمل، وهذا ما يفسر أيضاً انقطاع «ماكمن» نفسه والعديد من الشخصيات الأخرى من أصدقائه عن التصوير في العمل بعد بروز التهم، على رغم أنهم كانوا أبطالاً بحضورهم كرؤوس ناطقة ولقاءات في العمل وليس مجرد لقطات أرشيفية سابقة.
من هو «مكمان»؟ سيصبح من الساخر جداً أن نقول أن الصورة التي رسمها الراحل ممدوح فرج لنا كجمهور عربي عن شخصية «ماكمن» لا تبتعد كثيراً عن الحقيقة، فعلى رغم أن كابتن ممدوح كان يصف بطريقته الفكاهية ما يجري أمامه على الشاشة من سيناريو يدرك تماماً أنه تمثيل، إلا أن وثائقي«نتفليكس» يعرض أمامنا صورة للقصة الحقيقية الأبعد كثيراً عن المصارعة وسيناريوهاتها، والأقرب من شخص «ماكمن» الحقيقي، الذي يبدو في النهاية أن «مكمان» كان يكتب «بيرسونا» جميع اللاعبين أمامنا على الشاشة إلا نفسه، فشخصية «مستر مكمان» ليست إلا صورة أخرى من «فنسنت مكمان».
ليس الوثائقي من النوع الاستقصائي الكشفي، فهو لا يفجر قضية معينة قد تبدو مجهولة، أو يحل قضية أثناء عرضه مثل وثائقيات عرضت وتميّزت في السنوات الأخيرة مثل «النحس: حياة روبرت دست وموته» و«من قتل مالكم إكس؟» وإنما يعمل بنسق تجميع الأرشيف وربطه بسياقاته الزمنية التي صنعت أسطورة مكمان واتحاد المصارعة الذي اجتاح العالم شهرة ونجاحاً، وفي الوقت نفسه يعيد إلى الأذهان العديد من القضايا والفضائح التي لاحقت مكمان كالتحرش والتمييز الجنسي والمنشطات واستغلال المصارعين واحتكارهم ولكنها سقطت بالتقادم والنسيان، إلى أن برزت قضية العام 2024 من جديد.
من خلال الوثائقي نفهم تماماً أن فنس مكمان كقطب إعلامي ترفيهي لا يختلف كثيراً عن مجايله روبرت مردوخ والجميع يعرف مردوخ حتى لو لم يعرفوه، فشخصية لوجان روي، في المسلسل الشهير «الخلافة 2018-2023» وحياته وعائلته وإمبراطوريته، هي ليست سوى تطويع أدبي للقصة الحقيقية لإمبراطورية «مردوخ» الشهيرة التي أسسها والتي شكلت المشهد الإعلامي العالمي كاملاً، وبعيداً عن الجدية والسياسة وصناعة الملوك التي دخل فيها مردوخ، كان «مكمان» يصنع عالمه الموازي الافتراضي الذي وقف «أندي وارهول» عاجزاً أمام وصف مدى إعجابه به. وهكذا نجد الترابط الذي تجلت ذروته في أن الاثنين أسهما في صناعة أسطورة دونالد ترامب، إضافة إلى عقدة الأب لدى الاثنين، وعقدة الخلافة والأبناء لدى الاثنين، ونهج ميكيافيللي في صناعة الثروة، فكلاهما اشترى إمبراطورية أبيه، وكلاهما كان يقدم لمنافسه «عرضاً لا يمكن رفضه» من أجل أن يستحوذ عليه، ولا يعتذر مكمان عن ذلك بل يقول» إنها أمريكا، أنا آسف! إن لم تستطع منافستي» وكل ذلك في تأسيس إمبراطورية ناجحة لا تخجل من كثرة ما يلاحقها من فضائح وتهم أخلاقية، ومحتوى إعلامي يستجلب ذائقة العامة في أرذل شهواتها، وفي بعض الأحيان يشكلها كذلك.
بينما كانت «فوكس نيوز» منبر مردوخ الذي جسد آراء مجتمعه الشعبوية تجاه المهاجرين والمسلمين والعرب، كان سباقاً عليه مكمان في صناعة شخصية عدو الشعب في اتحاد مصارعته لمخاطبة العواطف الوطنية الشعبوية، لقد استلهم مكمان كما يبيّن الوثائقي وعلى لسانه نفسه، أزمة الرهائن الإيرانية 1979 لصناعة تطورات لشخصية «آيرون شيك» التي كان يؤديها المصارع الإيراني حسين خسرو ولغة الـ«بلا بلا» التي يتحدثها كأنها لغة حقيقية شرق أوسطية، فالجمهور الأمريكي سيتقبل أي «رطن» على أساس أنها الفارسية أو العربية أو اليابانية.
وبمرور الوقت تحولت إلى شخصية تمثل الوطنية الإيرانية في وجه قاعة تضج بالأعلام الأمريكية، وكان مكمان يبرع في رسم سيناريو ينتهي في النهاية بانتصار البطل الأمريكي «هوجان».
ومرة أخرى يستغل مكمان الجو السياسي واليوفوريا الوطنية في خضم حرب الخليج التي شنتها الإدارة الأمريكية على نظام البعث العراقي بقيادة صدام حسين لتدخل شخصية جنرال عدنان القيسي -وللمفارقة في الواقع ارتاد وصدام حسين المدرسة الابتدائية ذاتها- إلى الاتحاد لتؤدي دور العراقي الشرير بكاركتر أشبه شكلاً وأداءً بصدام حسين ومرة أخرى يهدد نظام الاتحاد ليصرعه الأمريكي البطل هوجان.
إن تلك القصص الرخيصة، علم مكمان أنها ستروج وكان رهانه رابحاً دائماً.
تفطن المخرج كريس سميث الذي أخرج من قبل وثائقي «الملك النمر» أنه لا يمكن تقديم ذلك الوثائقي بشكل ناجح إن كان اعتماداً على وجهة نظر مكمان فقط، الذي يعترف منذ البداية «ليتني أستطيع أن أخبركم القصة الحقيقية كلها، سأخبركم فقط القدر الكافي لأن يجعلها مشوقة» لذلك كان العمل ذكياً في احتوائه على مصادر معينة، فلو كان العمل منصباً على وجهات نظر مكمان وستيفاني وشين وأندرتيكر وشون سينا وذا روك وشون مايكلز وتربيل إتش وهالك هوجان لأصبح وثائقياً عن نبيّ، لذلك كان من المهم الاحتواء على وجهات نظر لأشخاص مثل إريك بيشوف وبريت هارت وديفيد شوميكر وشارون ميزر وفيل موشينك الصحفي الذي خصص حياته تقريباً من أجل فضح إمبراطورية مكمان.
لذلك واحدة من نقاط القوة في الوثائقي هي التوازن، إذ إنه لا يحمل رسالة محاكمة مكمان وتعريّته في وجه المشاهد المعبأ طبعاً بالكثير من النوستالجيا عن عصر «الأتيتيود إرا» والمجد الذهبي للاتحاد وحنين إلى عداوات شكلت ذاكرة الترفيه على الشاشة مثل عداوة «ستون كولد» في وجه «مكمان» وذكريات «جينرشين إكس» وقصص صعود الأندرتيكر وجون سينا والروك. بل على العكس من ذلك، يملأ الوثائقي الفراغات العاطفية في قصة مكمان واتحاده، ويفتح لنا مساحات للتعاطف مع ذلك المتبجح المغرور الذي لا يعقد صفقة مع الشيطان بل هو الشيطان ذاته، فنغوص في طفولة السيد مكمان الذي كان ولده تخلى عنه في الصغر وعاش مع أمه وزوجها اللذين قسيا عليه بشدة وضرباه واعتديا عليه جنسياً كذلك، إضافة إلى مكافحة الفقر اليومي، في الوقت الذي كان فيه أبوه الشرعي المليونير رئيساً ومؤسساً لاتحاد المصارعة، كذلك تهتم إحدى الحلقات بسبر أغوار علاقة مكمان بأسرته، التي اختلط فيها الوهم بالحقيقة، بين أدوارهم كلاعبين في الاتحاد وجزء من القصة، وكأشخاص حقيقيين وعلاقتهم بأبيهم، على ما تحمله كلمة «علاقتهم» من حمولات عاطفية فطرية، وكذلك استغلال وضغط من الأب على أبنائه وزوجته من أجل أدوارهم بشكل مثالي حتى طغى الوهم على الحقيقة في بعض الأحيان. إن تلك الزاوية من العلاقة العائلية تجعلنا ندرك حقاً كيف أنه من الصعوبة الفصل بين فينس مكمان ومستر مكمان الذي لا يني عن فعل أي شيء من أجل العمل، حتى إنه كان على استعداد لأن تحمل ابنته منه سفاحاً–داخل السيناريو- كخط أحداث جديد في الأحداث.
لذلك ليس من المستغرب أن مثل هذا الرجل قد غدر –بشكل حقيقي- بمصارعين مثل بريت هارت وويندي ريختر على الحلبة إذ غش في نتائجهم بالمباريات من أجل إجبارهم على ترك الاتحاد والرحيل، ولقد كانت تلك الأفعال –الحقيقية- التي غطت أخبارها الصحافة في مطلع التسعينيات، هي ما ألهمت مكمان نفسه إلى إدخال شخصية «مستر مكمان» إلى أحداث الاتحاد، المدير الذي لا يتهاون عن طرد موظفيه لأتفه الأسباب، الشهواني دائماً، الذي يستغل الجميع من أجل الربح، لقد كان ذلك حقيقياً، بقدر ما كان خيالياً، فحياة مكمان العملية ستنتهي بدفعه 12 مليون دولار لإقناعه امرأتين بالتراجع عن مزاعم التحرش بهما، وستنتهي فعلياً باستقالته الأخيرة بسبب مزاعم تتعلق بالتحرش وإجبار بعض النساء على ممارسة الجنس مع لاعبي الاتحاد.
فينس مكمان وعائلته في صورة تذكارية مع الرئيس ترامب، اثنان أسهما في صناعة بعضهما
يفتح الوثائقي زاوية يسهل علينا التفاعل معها إذ سميناه معضلة «عم أحمد السبكي»، الذي كان في سنوات مجده لقمة سائغة للبرامج التليفزيونية والمحامين الأخلاقيين الذين تناوبوا الاتهامات على أفلام السبكي وما سببته من أزمة أخلاقية في المجتمع، ولكن بجدية، هل صنع أحمد السبكي أخلاقيّات المجتمع؟ أم إنه فقط عكسها في أفلامه مستغلاً إياها في صناعة عمل تجاري ناجح.
إن هذا ما يدافع به «مكمان» عن عصر مجده، عصر «الدبليو دبليو إف» أو الأتيتيود إرا، ربما لم تكن ذروة المجد من ناحية الأرباح، ولكنها ذروة المجد الذي وصله اتحاد مكمان ببلع منافسيه في السوق جميعهم، والانتشار العالمي غير المسبوق، الذي وصلنا في شرائط الفيديو المستأجرة في مطلع الألفينيات في مصر. لقد حمل عصر الأتيتيود أجندة ذكورية بحتة تغازل الطبقة العاملة خصوصاً في الجنوب الأمريكي، وسرعان ما اتضح أن تلك الأجندة تناسب أذواقاً أخرى في العالم أجمع، الدم، والضرب بالكراسي، والإلقاء على الطاولات، والهروب من الأقفاص، وستون كولد ستيف أوستن يضرب مكمان مديره في العمل أسبوعياً مغازلاً رغبة كل فرد في العالم يحمل ضغائن ضد مديره ولا يقوى على ضربه بعنف والتنكيل به وإهانته على العامة في كل مناسبة ومن دون مناسبة، وكذلك بالطبع مكانة المرأة غير الإنسانية بالمرة، لقد أجبر «مكمان» إحدى نجماته في سياق السيناريو مرة أن تنبح أمامه ككلبة، وكان هذا في سياق عصر الأتيتيود أبسط شيء يمكن تقديمه حينما يتعلق الأمر بالنساء، الذين لعبوا في اتحاد مكمان دوراً في تعزيز الصورة الذهنية عن المرأة التي ترضي رئيسها في العمل جنسياً من أجل الترقي الوظيفي، وكذلك مباريات التعرية النسائية المهينة، وبشكل أسبوعي، كان يجب أن يحتوي العرض على مشهد جنسي أو قصة جنسية، في مقابل ما كان يحدث على الشاشة من مجاز تمثيلي، كانت تثار العديد من القضايا الحقيقية عن التعدي على نساء والتحرش بهم، واستغلال المصارعين الذكور أنفسهم وحقنهم بالمنشطات لكن كل هذا لم يعكر صفو عصر الأتيتيود.
النزاع الأشهر الذي صنع عصر الأتيتيود، فينس مكمان في مواجهة ستيف أوستن
كل ذلك كان في نهاية التسعينيات، حيث انتصار النموذج الرأسمالي الأمريكي، وترسخ نيوليبرالية عصر رونالد ريجان المتوحشة وفلسفة آيان راند عن الفردانية وفضيلة الأنانية، لقد كان المجتمع الأمريكي سيئاً جداً، وفي ذلك الوقت حفلت السينما بأفلام عن الهدم والهدم فقط كوسيلة للبناء من جديد، «نادي القتال» و«التاريخ الأمريكي إكس» و«الجمال الأمريكي» و«إل.إيه.سري للغاية»، والتقط «مكمان» ذلك المزاج العام ليصنع عصر الأتيتيود إذ يتصارع فيه مصارعون سيئون، أمام مصارعين سيئين جداً، بمصطلحات المصارعة كان صراعاً بين «الهيل» و«الفيلين» لم يكن هناك حضوراً للـ«فيس» أو «بيبي».
لقد كسر مكمان السقف، حتى أن تلك الفترة كان شعارها الشهير 3:16 التي كانت تزين القميص الجلدي لستون كولد، والتي كانت ازدراءً لإنجيل يوحنا، إذ أسس أوستن إنجيلاً على أنقاضه.
إذاً كان عالماً جديداً، ذا دين يقوم على عبادة الدولار والأرباح، فهل كان «مكمان» دجال هذا العصر؟ ربما. يطرح الوثائقي هذا السؤال فقط، ولا يجيبه.